اليوم تذكّرتُ الحياةَ. تذكّرتُ أني حين ركضتُ خلفَ الحياة تركتُ الحياة خلفي. شعرتُ بِرُهاب كبير. أخفيه ولكنه يتسرّبُ من جوارحي. رأيتُ أحدهم يضحكُ فعجبت. رأيته يشعر بالبهجة فغبطته. لم أغبطه. كأنه عندي كان يفتعل السعادة. تساءلتُ كيف يشعر من يكون على ما يرام. كان يحاول أن يجذبني إلى حديثه ولكن كان يذعرني الحديث إليه. كنت أخشى أن يحدّق فيّ. كانت هواجسي تتشاجرُ. كنت أحاذرُ أن يسمعني. كنت أخاف أن أقترب منه أو يقترب مني. إرتعبت وتلمست جسدي كأنني كنت أخشى أن تفزعه ثآليلي. هكذا كنت مجتهداً في غمرة العصف الذهني لا يستوقفني شيء. لا أكف عن الخواطر ولا تكف عني. يأخذني ما قَرُبَ منها وما بَعُدَ.
تذكرت أنني تنقصني المهارات. تذكرتُ أنني في البدء كانت ترعبني فكرة أنني سأكون رجلاً محترماً له شوارب. أعباء الرجل ذي الشوراب ثقيلة. الرجلُ ذو الشواربِ ذو يقين. الرجل ذو الشوارب يعرف دروب الحياة ويتأبّط ألف برهان ويعرف الأدلّة. تذكرت أنني تعتريني رغبة شديدة بالهرب، ولكنني كنت أظهر خلاف ذلك. الهرب من أين؟ إلى أين؟ مما مضى إلى ما سيأتي أو مما سيأتي إلى ما مضى. من هناك إلى هنا. الهرب من أي شيء إلى أي شيء. تذكرت عجزي وسآمتي. تذكرتُ حياتي الأولى. تذكرت الأباريق يحملها الضيوف إلى العراء. تذكرت ريح الشمال تنسج العجاج. تذكرت شبه صديق حدثني قبل أيام عن الربيع العربي وحلف أنه منذ الوهلة الأولى يعرف أنه إنما هو مخطط كبير، وحدثني عن الأتقياء. كم وددتُ أن أرى تلك الصور الرومانطيقية التي يستجلبها بحديثه عن الصالحين الأولين. تـذكرتُ بئر عمتي نُخضْخضُ فيها الدلاء فتأتي ملآى بالضفادع والماء العكر. تذكرت المغرفة الكبيرة ذات الثقوب. تذكرتُ المنخل والغرابيل. تذكرتُ الطير يترصد بها عباس في البيادر. أعْجَزَهُ صيْدُ الزرازير فَمالَ إلى الفاختة. أتذكّر الحياة وأرتجفُ. أرتشف قهوة مزاجها كافيين ثخين. كأنني أتبدّدُ. أريد قدحاً يحويني.
أمضي ساعات النهار منهمكاً أرفعُ الحجارةَ من الشقّ الأسفل في الجبل، حجارة أقطعها وأنحتها وأحملها على عاتقي. أضعها على مصْطَبة قرب مُنْحَدَرِ سحيق. أدقّها وأصقلها ثم أحملها وأضعها في الجانب الأيسر من الجبل. الطريق من المقلع إلى المِدَقّة أخدود مرصوف بجلامد غليظة تقطع حوافر البغال ويحفّ به عوسجٌ نضير. أحدّق بين الفينة والأخرى في وجهي تعكسه شفرة الفأس. جبيني فاحم وفي بُنْصري خاتم ذو شذرة خضراء تشتدّ خضرتها في العتمة والغسق. تهب ريح فينهضُ غبار مثل أجنحة الجراد يغشى البصر. أطرقُ وأسدرُ. أهيَ عينٌ تعشى أم أفقٌ يضيق؟ كلما هويتُ بالفأس على صَخْرة، قدحتْ وصَوّتَتْ و تطايرت الكُسارة في الهواء. يرتطم الصوت في شعاف الجبل ويتردد بينها. تضاعف وعورة المكان شدة الصدى. أتلفت فأرى حياة الكائنات كما هي. الهندباء البهية تسطعُ صَفْرتها وسيقان البقلة الحمقاء مِحْمرّة مِزرقّة مثل أوردة الدوالي. الخزامى بهيجة تتفتّحُ بين أحجار الكلس، ووراء العوسج تنبت شجرة خشناء لا أعرفها لها أوراق تنمو مثل الكلاليب، تتدلى منها ثمار تشبه الأصابع المحنّأة. هنالك وروارٌ أزرق الخدّ يجثمُ على غصن قَيْقَب يرقبُ حركة الحشرات على السفح وقندس له شفة بعير وأخمص إنسان باسط ذيله المسطح بين البرْدي في قاع فيه حصى كأنه خرزٌ ملون، لم أك أعلم أن البردي ينبت في هذا الصقع. لم أرهُ البتّة من قبل. و هنالك جُعَلٌ منهمكٌ لا يرى خيراً إلا في قرموطة. غزالٌ يمشي إلى العين بحذر، لم الحذر؟ لا قَيّوط ولا صيّاد هنا. كمْ راعتني فكرة أن الحياة تبدو كما هي. تداعَتْ الحجارة التي رصْرَصَتها قرب المِدَقّة فهَرعْتُ إليها.
كلما آلمتني فقرات ظهري تذكرت سنواتي الأولى. كان لدينا رهطٌ من الحمير الكسالى ، وثلاث بقراتٍ صُفْر وثورٌ سامريٌّ مُجَنّحٌ أمْلَح، وخمسون نعجة يرأسهن كبش كثير النكاح وكان الكبش يتشيّع. وكان لدينا بعض الدجاج ينقر عناقيد الحصرم فيغضبُ كسّاب وهو من أصحاب الكتاب ويهشّ الطير بالحجارة. وكان لدينا حصان محزون يسبّحُ في الليل ويعلفُ وريقات البرسيم والحصى. وكان بجوارنا ثلاث بيوت وعلى مرآى منا نيف وعشرون بيتاً وكان البدو في البيد والطنطل في الفيافي. وكنا ننحر الأضاحي في الأعياد وكنا...وكنا.
كلما تذكرت سنواتي الأولى تذكرت عَيّي وعجزي. كانت هذه دارنا الأولى فأين هي الأخرى؟ كنت يافعاً أحلم بالنمو كي تتضح ملامح الأشياء. كانت الحياة بيدي أو هكذا بدا لي. كنت أطير من غصن إلى غصن. تطير بي الذكريات ويُرجعني صوت رحى الحَجَر في الشعب المجاور. ما إن أفرغ من صخرة حتى أقتلع صخرة أخرى. تذكرت الحمار يحبقُ أحياناً لشدة وطأة الجوالق. أغني أغنية طالما غنيتها:
أنا فَتَحْتُ المُدُن!
أنا عرفتُ الشمال!
أنا جُبْتُ الأرضَ، جِئْتُ مِنْ مَشْرِقِها!
كنت في نينوى!
سبحت في شط دجلة!
كنت أُعَدُّ من الأجانب!
رأيت الغجر في حمّام العليل،
وددت أن أكون منهم
أجترح الكبائر!
حين أعود في المساء أتناول طبيخ الخبّاز أو حساء الحندقوق و عصيد الشيْلم. وما إن أضطجع على السرير حتى يتفاقم التفكر بالغيوب. أفكر بالشيء. خلقني من طين وخلقته من أسى. أيها الشيء لست على شيء. أيها الشيء كأنك لاشيء. أيها الشيء وهمك حاضر يطيف بي وعلمك غائب. أيها الشيء كلما تدبّرتك، بدوتَ أكثر توحّشاً. أيها الشيء أريد أن يكون لي بيتاً يضمني له جدران وفيه مدفأة و له كوة أحدق منها على الكون. أجلس فيه وأسترخي من عناء العمل في المساء. حياتي خداع وتأجيل. صور رسمتها لنفسي في الصغر. كبرت الآن وشابت ذؤابتي. لم تكبر تلك الصور ولم تتغير. كل شيء يسير صوب الإكتمال غير أنني أقف هنا منذ زمن بعيد. أترجرج متى جئت إلى هنا. يا خير! خذني إلى يمينك، أنا سئمتُ الشمال! يا خير! خذني! خذني إلى الذكرى! يا خير! أنا تَمزّقْتْ ! خِطْني!
نمتُ. في السّحَر تراكمت غيوم كثيرة. أدهشني البرق المتكسر في حواجب السحاب. هنالك طائر أسود يجثم على شجرة عُلّيق أزرق نبتت قرب الشباك. لم يكن عقعقاً أو غراباً. كانت الريح موحشة. قأقأ هنيهة في الظلمات وغفى. إرتعدت غصون العُلّيق وهطلَ وابل غزير إبتلّتْ مِنه خوافيه. قفزَ على جلمدة ملساء. طار وجثم على غصن شجرة. بعد أن توقف المطر نسل ريشه وتفقّد مخالبه. أنامُ و توقظني جلجلة الرَحَى المُدوّيّة في الشِّعاب، أنهضُ وأعود إلى الحياة تَتخطّفني الهواجس. أقتلع صَخْرة وأدحْرِجُ أخرى.